إيران والمشـروع الحضـاري الإسلامـي البديـل

إيران والمشـروع الحضـاري الإسلامـي البديـل (الجزء الأول)

خاص بانوراما الشرق الأوسط

أنمـوذج الثـورة الإسلاميـة الإيرانيـة..
قال الإمام الخامنئي خلال اجتماعه بأعضاء اللجنة العليا لـ”مركز الأنموذج الإسلامي الإيراني المتقدم” مطلع هذا الأسبوع، “إن هدف الثورة الإسلامية هو إرساء دعائم الحضارة الإسلامية”..
ووجّه خلال استقباله لأعضاء اللجنة المذكورة إلى ضرورة تجنب الاعتماد على الأسس الخاطئة وغير المجدية لنماذج التنمية العالمية الحالية، وضرورة تقديم أنموذج إسلامي بديل، معتبرا أن العمل الجهادي والثوري واستثمار الطاقات الغنية والمقدرات المتينة للمصادر الإسلامية والعلمية ونهج الحوار من مستلزمات إنتاج وكتابة الأنموذج الإسلامي المتطوّر.
ما قاله الإمام، يعد بحق قفزة نوعية في مسيرة الثورة الإسلامية، تؤشر إلى أن العقل الإيراني الجبار هو بصدد العمل اليوم على صياغة هذا الأنموذج الحضاري البديل الذي طالما حلمت به الشعوب العربية والإسلامية برغم الانتكاسات الحضارية العديدة والمريرة التي أصيبت بها خلال تاريخها الطويل، ومع ذلك لم تيأس ولم تستسلم ولا تزال تتطلع إلى اليوم الذي يصبح فيه هذا المشروع واقعا قائما على الأرض، لأنه جزء أصيل من عقيدتها الدينية ومخيلتها العقلية، وذاكرتها التاريخية..
هذا ما أكّدته ثورات الربيع العربي التي وبرغم فشلها بسبب عدم وجود قيادات ربانية حكيمة تقود المسيرة برؤية سياسية واضحة ومشروع حضاري بديل عن كل المشاريع الكارثية التي خبرتها، سواء مع النماذج الثورية العسكرية الاستبدادية، أو النماذج التقدمية العلمانية المتأثرة بالإديولوجيات اليسارية (شيوعية واشتراكية)، أو النماذج العلمانية المتأثرة بالنموذج الليبرالي الغربي المتوحش، أو النماذج الأصولية الرجعية المتخلفة العميلة للقوى الأجنبية والتي ليس لها من الإسلام غير التسمية كما هو حال مهلكة “السعودية” ومهلكة المغرب على سبيل المثال لا الحصر.
هذا الواقع هو الذي دفع بالشعوب العربية بعد الثورة للرهان على الإسلام السياسي، فرأينا كيف أن الشعوب في المغرب وتونس ومصر مثلا، صوتت بكثافة لتيارات الإسلام السياسي، اعتقادا منها أن هذه الفئة “المُؤمنة” سيكون بمقدورها إخراجها من مآزقها المستعصية وإنقاذها من أزماتها المركبة، والعبور بها نحو بر الأمان حيث تستطيع تحقيق ذاتها وإقامة مشروعها الذي يحقق رفاهيتها في الدنيا وسعادتها في الآخرة، لإيمانها الراسخ باستحالة التفريق بين الدين والسياسة، بين الدنيا والآخرة، باعتبار العاجلة مجرد قنطرة للعبور نحو محطة الآجلة النهائية الخالدة، وهو ما لا يعني خضوع الدين للسياسة بقدر ما يعني سمو الدين عن مستنقع السياسة وتبوّئه المكانة التي تمكّنه من مراقبة وتوجيه العمل السياسي كي لا يخرج عن الثوابت والمبادئ القرآنية وينفلت من عقال الأخلاق المحمدية والإنسانية النبيلة.
*** / ***
الأمام الخامنئي خلال اللقاء المشار إليه أعلاه، استعرض بعجالة المراحل الخمس لتحقيق أهداف الثورة الإسلامية الشاملة وعلاقتها بالأنموذج الإسلامي البديـل، والتي يمكن إيجازها كما يلي:
* المرحلة الأولى: بلورة الثورة الشعبية الإسلامية بزعامة الإمام الخميني (ره)، ونجاحه في إسقاط نظام الشاه الاستبدادي الفاسد والعميل بأسلوب سلمي، وهذه مقدمة كان لا بد منها لتحضير الأرضية الطيبة والمناسبة للزرع الجديد، لأن التغيير الحقيقي لا يتم من خلال عمليات الإصلاح والترقيع لبناء مهترئ آيل للسقوط لا محالة ولو بعد حين، لأن عمليات التجميل قد تغير الشكل إلى حين، لكن الجوهر يظل فاسدا ما بقي النظام الظالم العميل قائما.
* المرحلة الثانية: تشكيل نظام سياسي إسلامي شامل لدولة المؤسسات والقانون، ويعود الفضل في وضع أسس الحكم الرشيد القائم اليوم في إيران إلى رؤية الإمام الخميني (ره)، حيث عرف كيف يزاوج بين الديني والدنيوي، بين المصالح العليا للأمة الإيرانية المتمثلة في الدولة وحقوق الأقليات للحفاظ على الخصوصية الدينية والتنوع الثقافي، وضمان المساواة في الحقوق والواجبات تحت مظلة الإمامة أو ما أصبح يعرف بـ”ولاية الفقيه”، والتي تعطي الإمام دور المرشد والمُوجّه والحكم، باعتباره رمز الأمة الإيرانية، بالإضافة إلى قيادة الجيش الحامي للبلاد والحرس الثوري المُؤتمن على ثوابت ومبادئ الثورة الإسلامية..
هذا النموذج السياسي الراقي يسمو بالدين فوق السياسة فلا يخضع لها، وفي نفس الوقت لا يتحكم في عمل المؤسسات، لكنه لا يسمح للسلطات التنفيذية باستغلال الدين كأداة لتحقيق أهداف سياسية انتهازية، وهذا هو التوازن المطلوب في العمل السياسي الناجح الذي يجب أن يخضع حكما لمعايير القيم والأخلاق في تحقيق المصالح حتى لا تفسد الأرض، وهو عكس النموذج السائد اليوم في الغرب والعالم العربي أيضا، ما أدى إلى حالة الانحطاط التي تعيشها الأمة اليوم من مغربها إلى مشرقها.
* المرحلة الثالثة: تشكيل حكومة إسلامية منتخبة من الشعب لتنفيذ المشروع الإسلامي المتكامل، والذي تمت صياغته على أساس النماذج والمعايير القرآنية والأخلاق المحمدية والحضارة الإسلامية الأصيلة، وهي مرحلة النهضة الشاملة التي تعيشها إيران اليوم في كل المجالات للعبور إلى المرحلة الرابعة التي تليها.
وفي هذا الباب، تجدر الإشارة إلى أن الإمام ورجال الدولة في إيران لم يستحضروا نموذجا سياسيا إسلاميا من ثلاجة التاريخ من باب التقليد ليطبقوه في بلادهم كما يحاول ذلك تجار الإسلام السياسي اليوم، بل اجترحوا أنموذجا جديدا لا سابقة له في التاريخ الإسلامي، لأنهم وضعوا كل التجارب السابقة موضع شك وتفكيك وتمحيص وتحليل، فرفضوا التقليد، والتزموا بمعايير دينية تعتبر من ثوابت القرآن بعيدا عن مفهوم تاريخانية النص التي يقول بها العلمانيون المستلبون، وأخذوا بمقاييس العلم والتكنولوجيا وأسس المعرفة القديمة والحديثة للانخراط في تاريخ الزمن الكوني الحديث من أجل العبور نحو المستقبل المشرق الجميل، الأمر الذي مكنهم من اجتراح المعجزات في كل مجالات التنمية والتقدم، فأصبح الطريق نحو القمة سالكا أمامهم اليوم دون عقبات كأداء تذكر بعد أن امتلك الشعب الإيراني ناصية البحث العلمي وأصبح يسابق الأمم المتطورة في هذا المجال.
* المرحلة الرابعة: تشكيل المجتمع الإسلامي القوي والمتجانس، وفتح باب الحوار ليختار المجتمع ألإيراني بحرية ووعي ومسؤولية نمط وأسلوب الحياة الإسلامية التي يرغب فيها، ليعيش منسجما مع قناعاته الدينية وتطلعاته الدنيوية بما يؤمن له الرفاهية في العاجلة والسعادة في الآخرة.
وهذه قمة الديمقراطية، بحيث يستطيع الشعب الإيراني من خلال المناقشة والحوار المشاركة الإيجابية في وضع تصور لنمط وأسلوب الحياة التي يريد أن يعيشها، من دون تفريط في قيمه الدينية والثقافية، ليجترح لنفسه أنموذجا حضاريا جديدا راقيا، مفعم بالحرية والأمن والسلام والرفاهية، وبدل مزيد من التضحية والعطاء والمبادرة الفردية والجماعية لتحقيق الذات في العمل الصالح الذي ينفع الناس، باعتباره الجواز المعتمد من رب العالمين للعبور الآمن والمضمون إلى حياة النعيم الدائم المقيم.
* المرحلة الخامسة: والتي تعتبر الهدف الغائي من مراحل الثورة الإسلامية الأربعة، ويتمثل في إرساء دعائم الحضارة الإسلامية التي لا تعني توسيع النفوذ بفتح البلدان بالقوة العسكرية كما حصل في التاريخ الإسلامي تحت مسمى ” الغزوات” أو “الفتوحات”، والتي كان محركها الحقيقي “الغنائم” كما أكدت دراسات التاريخ النقدية، لأن الله أمر رسوله بنشر الإسلام بالكلمة الطيبة والقدوة الحسنة لا بحد السيف والقهر والإجبار.. وبهذا المعنى، فإن إرساء دعائم الحضارة الإسلامية المتقدمة الجديدة، تعني حصرا وتحديدا تأثر الشعوب العربية والإسلامية فكريا بالإسلام المحمدي الصحيح، وهو الأنموذج الحضاري الفكري والتنموي البديل الذي تعمل على إقامته الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم، من منطلق أن الثورة الإسلامية هي ثورة شاملة وجامعة، لا مذهبية ولا عرقية، لا شرقية ولا غربية، وبالقطع هي ليست طائفية أو مذهبية كما قد يقول بعض المتحاملين على كل ما هو إسلامي أصيل وجميل، كي لا تقوم للأمة قائمة فتظل أبد الدهر تعيش تحت القمع القهر، وتشعر بالذل والإهانة وانعدام الكرامة، فلا تحقق بالتالي ذاتها.
*** / ***
ما من شك أن تجربة الثورة الإيرانية بمقاييس التطور الحضاري الإنساني تعتبر ثورة فتية، لكنها نجحت في تحقيق قفزات عملاقة ونوعية في عديد مجالات العلوم والتكنولوجيا والمعرفة، كما في السياسة والاجتماع والفكر والثقافة، برغم معاداة الحكومات الغربية والعربية لها، وبرغم الحرب العدوانية التي فرضت عليها لوأدها في مهدها، وبرغم الحصار الظالم الذي حاول الغرب من خلاله تعطيل مسيرتها الناجحة.
وإذا كانت المرحلة الأولى والثانية من الثورة قد نجحت نجاها باهرا أدهش العالم، بحيث استطاعت في وقت وجيز من إسقاط أعتا نظام ديكتاتوري في المنطقة كان يعتبر شرطيا لأمريكا في المشرق العربي والإسلامي، وإقامة دولة إسلامية بنمط جديد يختلف عن الأنماط الإسلامية التاريخية القديمة، فلأن الفضل في ذلك يعود لقيادة رجل رباني جليل بحجم الإمام الخميني (ره)، والذي بعظمته وذكائه وسعة علمه واطلاعه، عرف كيف يجترح نظاما إسلاميا مؤسساتيا جديدا يعتمد مبدأ الشوري بمفهومه القرآني الواسع، من دون أن يكون نظاما دينيا بالمفهوم الكهنوتي كما هو الحال في “السعودية” مثلا، نظام ثوري جديد هدفه ضمان الأمن الروحي للناس باختلاف عقائدهم، وتأمين حاجياتهم الدنيوية وحقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لكي ينعموا بالرفاهية في الدنيا والسعادة في الآخرة، وهو ما لم ينجح في تحقيقه أي نظام إسلامي سابق بما في ذلك زمن الخلافة، الأمر الذي مكّن الإمام الخميني (ره) من دخول التاريخ الإسلامي والعالمي المعاصر من أوسع أبوابه، فأصبح علما من أعلامه الكبار.
وبعد تسليمه الروح لبارئها، أتى بعده وارث سره الإمام الخامنئي، ليكمل مسيرة الثروة الإسلامية المجيدة في مرحلتها الثالثة التي تعيشها إيران اليوم كما أسلفنا، وما تحقق في عهد الإمام الخامنئي في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ الثورة الإيرانية من تحرر وسيادة واستقلال، وما حققه الشعب الإيراني العالم من تقدم وتطور ورقي، وقدمه للحضارة الإسلامية من إنجازات وضعت إيران في مصاف الدول المتقدمة، فتبوّأت مركز القوة الإقليمية الكبرى في المنطقة بما تتمتع به من مقدرات ومؤهلات وقوة ردع جبارة، وها هي اليوم تتطلع للعب أدوار دولية وازنة في مسيرة الحضارة الإنسانية بأنموذجها الإسلامي الناجح والفريد.
لكن ما تجب ملاحظته، هو أن إيران لم تعتبر يوما الثورة الإسلامية ثورة خاصة بها، بل كانت ولا زالت تطمح لأن تكون ثورة الأمة الإسلامية جمعاء، لأن هدفها النهائي وكما أسلفنا، هو بناء حضارة إسلامية جامعة لكل شعوب ومكونات الأمة وفق الرؤية القرآنية والمحمدية للوحدة التي لا تعني التبعية والاستلاب بقدر ما تعني التعاون والتضامن والتكافل والبناء من أجل قوة ومنعة وخير الأمة الإسلامية، لتكون كما قال عنها خالقها (أحسن أمة أخرجت للناس).
وحيث أنها ثورة إسلامية بامتياز، تستمد مبادئها من التعاليم القرآنية ومن السنن الإلهية والسيرة المحمدية، فقد وضعت ضمن أولوياتها دعم المقاومات الشعبية سياسيا ومعنويا وماديا وعسكريا ضد العدوان التكفيري الذي تقوده مهلكة ‘آل سعود’ اليوم لتفتيت الأمة كي لا تقوم لها قائمة، وضد الاحتلال الصهيوني للأرض والمقدسات، لتؤسس المقاومات العربية والإسلامية المنبثقة من رحم الشعوب قواعدها الجهادية الخاصة، ولتوجه بوصلتها النهائية بعد هزيمة التكفيريين والمنافقين نحو تحرير فلسطين التاريخية وعاصمتها القدس الشريف..
وبموازاة دعم المقاومات الجهادية، تقدم إيران الدعم المعنوي والمساندة السياسية للشعوب المستضعفة من منطلق الواجب الديني والأخلاقي، لمساعدتها على التحرر من أنظمة الظلم والاستبداد والفساد الجاثمة على صدورها بالقمع والقهر، للحؤول دونها ودون حلمها في الحرية والانعتاق، واسترداد سيادتها الشرعية المسروقة من قبل فراعنة العصر.
*** / ***
لهذا السبب، من الطبيعي أن تتحول إيران إلى عدو ويصبح تحالف الطغاة الظلمة الفاسدين مع الصهاينة ضرورة استراتيجية بل ووجودية، ومن هنا نفهم سبب الحملة الظالمة المستعرة التي تخوضها مهلكة ‘آل سعود’ ومن والاهم من منعدمي الضمير ضد إيران والمقاومة الإسلامية الشريفة في لبنان وسورية والعراق واليمن..
وهذا موضوع أشبعناه بحثا وتحليلا وأصبحت الصورة واضحة جلية اليوم للجميع، باستثناء من أعمى الله بصره وبصيرته، ولعلكم تذكرون أيها الأعزاء حين قلنا أن من عادى أولياء الله آذنه تعالى بحرب مباشرة منه..
وقد كنا شهودا على بعض من فصول الوعد الإلهي الذي بدأ يتحقق، إذ بمجرد اتهام حزب الله بالإرهاب من قبل ‘آل سعود’ ومن اشتروا موقفهم بالمال الحرام من العملاء، انقلبت الصورة بشكل دراماتيكي، حيث رأينا كيف أن العالم أجمع ومن خلال كبار كتابه ومحلليه ونخبه السياسية والثقافية المرموقة أصبح لا حديث له اليوم إلا عن إرهاب ‘آل سعود’ من أمريكا إلى أوروبا إلى آسيا فالعالم الإسلامي والعربي، ورأينا كيف أن سادة ‘آل سعود’ في واشنطن بمن فيهم كبيرهم الشيطان أوباما يتهمهم جهارا نهارا بدعم الإرهاب ونشر الطائفية والفكر التكفيري في كل أصقاع الأرض، ويقول عن إيران أنها نظام عقلاني غير مغامر..
وها هو الكونجرس الأمريكي يتأهب تحت ضغط الرأي العام للكشف عن مسؤولية “آل سعود” في هجمات ۱۱ سبتمبر/أيلول ۲۰۰۱، وتشريع قانون جديد يقضي بمتابعتهم قضائيا، والشعب الأمريكي لا يمكن أن يتنازل عن حقه في العدالة مهما حاول أوباما تبرير عدم المتابعة بنطق المصلحة.
وقد رأينا أيضا كيف فضح الله أمراء الكبتاغون حيث سقط أحدهم في لبنان، وكيف استدعي الحريري من قبل القضاء الفرنسي للتحقيق معه في تهم تتعلق بتهريب المخدرات القوية وتبييض المال الحرام، وكيف أن امبراطوريته المالية سقطت في مستنقع الإفلاس، وراح يستجدي الرئيس بوتين عساه يتوسط له للعودة رئيسا لوزراء لبنان، كي يبيع خيرات ومقدرات الشعب اللبناني في سوق النخاسة السياسة ليسترجع ما ضاع منه من عز ومجد..
أو ليست هذه تجليات لبعض أوجه حرب الله على من اتهم أوليائه بالإرهاب لأنهم يحاربون التكفيريين و”إسرائيل”، ومن اتهموا الحزب أيضا بالإتجار في المخدرات ظلما وعدوانا، فأصبحوا مطلوبين اليوم لللقضاء من أجل نفس التهمة وبالحجة والبينة؟..
ملحوظـــة:
سنحاول في الجزء الثاني من هذا المبحث، الحديث عن أسس المشروع الحضاري الإسلامي الجديد والبديل، من مدخل إعادة توحيد الوعي العربي والإسلامي بمفهوم الأمة، وشروط النهضة، والأسس المفاهيمية والعقائدية والثقافية والتاريخية والسنن الربانية التي يجب الأخذ بها في بلورة هذا المشروع العظيم، ما دام الإمام الخامنئي حفظه الله، طرحه للنقاش العام، وأوصى بأن تأخذ اللجنة بآراء الخبراء والباحثين والشباب المتنور في صياغته ليكون مشروعا جامعا لكل مكونات الأمة، وما يتطلبه من جهد إعلامي للتعريف به وتوعية الشباب بأهميته، من أجل مستقبل أفضل للأجيال القادمة..
وهذا باب عظيم من أبواب التغيير الحقيقي المنتج، لأنه ينطلق من الفكر ويؤثر على الفعل فيوجه الجهد الوجهة الصحيحة التي تنفع الناس في دنياهم وآخرتهم.
الجزء الثاني
خلاصـــة لا بــد منهـــا..
حديث الإمام الخامنئي عن إقامة المشروع الحضاري الإسلامي البديل لم يكن من قبيل الصدفة السياسية كما قد يعتقد البعض، بل يندرج في إطار أهداف الثورة الإيرانية ومساراتها التي تم تحديدها وفق رؤية إستراتيجية بعيدة المدى زمن الإمام الراحل الخميني (ره)، والمشروع الذي نتحدث عنه إنما يشكل جوهر التجربة الإسلامية في مرحلتها الثالثة التي تعيشها إيران اليوم كما أسلفنا القول في الجزء الأول من هذا المبحث.
وبالتالي، فالمشروع لا يمكن اعتباره وليد الحاجة الظرفية التي فرضها واقع التحولات الدولية وما عرفته ولا تزال المنطقة من صراعات طفت على السطح بشكل دراماتيكي بعد الربيع العربي الدامي، الذي لم يولد من فراغ، بل كان نتيجة طبيعية لعقود من السياسات الكارثية العقيمة التي انتهجتها الأنظمة العربية منذ أن قررت التخلّي عن السيادة والاستقلال وحلم الوحدة الذي كان تحرير فلسطين أولى محطاته الإجبارية، فانخرطت بعد حرب ۱۹۷۳ في مسلسل التطبيع مع إسرائيل، بعضها بشكل رسمي والغالبية بشكل سري، واندمجت كليا في النظام الرأسمالي الأمريكي المتوحش، ففوتت قطاعاتها العامة وتخلت عن خيرات الشعوب ومقدراتها لفائدة الشركات العابرة للقارات، ولم يعد الاهتمام بمجال التنمية المجتمعية من أولوياتها إلا في الخطابات الرسمية من باب التضليل والتعمية، وحوّلت مجتمعاتها إلى مجتمعات استهلاكية للسلع الغربية ونهجت سياسة التبعية الأمنية للغرب الاستعماري، فعمّ الظلم والفساد كل الهرم من الحكومات إلى الأحزاب والنخب.. والحصاد الطبيعي لهذا الزرع الخبيث هو ما نراه اليوم من انهيار للدول والشعوب واندثار للنخب، وانقسام المجتمعات إلى طوائف ومذاهب وكانتونات وبروز نجم الحركات الانفصالية والتنظيمات التكفيرية..
لذلك، لم يأتي إعلان الإمام الخامنئي عن بدأ صياغة المشروع الحضاري الإسلامي البديل من باب استغلال الظرفية الدقيقة والحساسة التي يمر منها العالم العربي والإسلامي اليوم بهدف ملأ الفراغ كما قد يتصور البعض، بل هو حلقة أساسية في مسار تشكل الدولة وتكوين المجتمع للنهوض الحضاري في إطار مشروع حداثي بطابع إسلامي وفق الأنموذج الإيراني الذي وضعه الإمام الخميني (ره) بعد نجاح الثورة الإسلامية عام ۱۹۷۹، في إطار خطة استراتيجية بعيدة المدى كما أسلفنا القول في الجزء الأول من هذا المبحث، وهو الأنموذج الذي ثبت نجاحه المدهش حتى الآن ويسير بخطى حثيثة وواثقة عبر المراحل الخمسة التي تحدثنا عنها آنفا، نحو مستقبل مشرق واعد، لذلك، تسعى أمريكا والغرب الأطلسي بكل الوسائل والسبل بما في ذلك استعمال الأدوات الإقليمية كـ”السعودية” وتركيا لإشعال الفتن والحروب الطائفية والمذهبية من خلال استراتيجية الحروب الناعمة كما أصبح واضحا للجميع، وذلك لعرقلة المشروع الإيراني وإجهاضه كي لا يتحول إلى رافد إسلامي جامع ومشروع حضاري بديل لنموذج الخراب النيوليبرالي الذي دخل مرحلة الانحدار والأفول.
وإذا كان لنا أن نفكر في مشروع بديل لإنقاذ منطقتنا العربية، فعلينا أولا استخلاص العبرة الأساس من واقعنا المجتمعي مقارنة بالواقع الإيراني، وفي هذا الصدد نستطيع القول، أن ما تطمح إليه الشعوب العربية لا علاقة له بما تروّج له نخبها من مشاريع قديمة متجددة غير قابلة للحياة، تأكد هذا خلال الانتخابات التي جرت عقب انتفاضات الشعوب في تونس والمغرب ومصر على سبيل المثال لا الحصر، حيث ذهبت غالبية الأصوات في الانتخابات التشريعية إلى الإسلاميين، وهذا إن دل على شيئ فإنما يدل على مدى تجذر العقيدة الدينية في النفوس، وتطلع الشعوب إلى حكم إسلامي يكون بديلا عن نماذج الديكتاتوريات العسكرية والبوليسية والعلمانية التي لم تقدم للمواطن العربي أنموذج حكم رشيد وعادل يضمن للمواطن الحق في الحرية ويؤمن له العدالة الاجتماعية ويصون كرامته الإنسانية، وهذا هو الشعار المشترك الذي رفعته الشعوب العربية الغاضبة خلال ما عرف بالربيع العربي (أي حرية، كرامة، عدالة اجتماعية).
ومرة أخرى، نكتشف أن الغرب الاستعماري هو الأكثر معرفة بواقعنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي من بعض نخبنا التي لا تزال تعيش في أبراجها العالية منعزلة عن الواقع ومنقطعة عن مسار التحولات الكبرى التي يعرفها العالم والإقليم اليوم.. بدليل أنها ما زالت تروج لمشاريع لم يعد لها من مكان في حياة الناس كمشروع “القومية العربية” مثلا، حتى لو أضيفت له كلمة “مقاوم” ليتحول إلى “مشروع عربي وحدوي مقاوم”.. لأن الشعوب العربية انفجرت وانقسمت إلى أعراق وطوائف ومذاهب، كما أن التيارات التقدمية من أحزاب سياسية ونخب ثقافية تخلت منذ زمان عن المقاومة، وأصبح الجميع في الصراع على كعكة السلطة سواء، ولم تعد من مقاومات في الساحات العربية غير المقاومات الإسلامية الشريفة المنظمة والمدعومة من إيران، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها.
ركوب أمريكا والغرب الأطلسي تيار الإسلام السياسي (الإخواني ومشتقاته) لسرقة ثورات الشعوب، كان خطأ كارثيا دفع ثمنه تيار الإسلام السياسي الذي راهن على قوى الشر الإمبريالية والصهيونية لاستلام السلطة كمرحلة أولى في إطار مشروع “إسلاموي” تتزعمه تركيا لتحول الإسلام المحمدي إلى إسلام أطلسي علماني مستسلم لأمريكا ومهادن لإسرائيل على النمط التركي، وفشل المشروع لم يصب في مصلحة الشعوب العربية بقدر ما أعطى أنموذج الحكم الدهري الاستبدادي الفاسد القائم في منطقتنا متنفسا وفسحة في ظل الفراغ.
يقول الكاتب ‘توماس فريدمان’ بسخرية في إحدى خلاصاته: “أن الحكومات الاستبدادية العربية لن تبحث عن العقول والطاقات المحلية طالما أنها قادرة على حفر الآبار واستخدام الإيرادات النفطية لشراء الولاءات ومنع الشعوب من المشاركة السياسية في السلطة بأي ثمن”.
وما نشهده اليوم من فتن وصراعات وفوضى، هو نتيجة هذه الحقيقة التي أشار إليها توماس فريدمان، حيث سيؤدي الأمر في النهاية إلى انفجار المجتمعات وانقسام الشعوب إلى إثنيات وطوائف ومذاهب بسبب الظلم القائم والفساد السائد والخوف الذي عمّ القلوب فراحت الناس تبحث عن الأمن والحماية في معتقل الطائفة وسجن المذهب، خصوصا في ظل انعدام الرؤية وفقدان البوصلة، وهذا هو ما نشهد بعضا من تجلياته اليوم في عالمنا العربي، في غياب قيادة ربانية تنقد الأمة من واقعها الرديء ومصيرها المظلم القاتم، وهذا أمر بيد الله تعالى كما يؤكد ابن خلدون، وبالتالي، فمصيرنا أن ندفع ثمن خنوعنا وتقاعسنا وقبولنا بالظلم والذل والإهانية إلى أن نستفيق من غفوتنا ونصلح أنفسنا وننتفض لنغير واقعنا.
أي هدف تسعى إيران لتحقيقه من هذا المشروع؟..
لنتحدث بصراحة ونقول.. إذا كان الهدف من المشروع الحضاري الإسلامي البديل الذي تشتغل عليه إيران اليوم، هو بلورة رؤية حضارية من منطلق الفكر الشيعي الجعفري، فسنكون أمام مشروع مذهبي يعلن انتصاره على بقية المذاهب، لما يمثله من أنموذج إديولوجي ثوري ناجح وقابل للتطور والانتشار..
وبالتالي، سيكون الهدف النهائي من هكذا مشروع هو السعي للتأثير على جيل الشباب الإيراني من خلال التوعية والتربية والتثقيف لبناء أمة إيرانية متماسكة بعقيدة إديولوجية راسخة، ومحاولة التأثير في جيل الشباب العربي لتبني هذا الأنموذج باعتباره يمثل الإسلام المرجعي وفق ظروف الزمان الحالي، لنجاحه في التوفيق بين الجانب النظري والجانب التطبيقي للإسلام من المنظور الشيعي، وهو ما فشل في تحقيقه الإسلام السني بمذاهبه المتعددة فشلا ذريعا.. وهذا من حق إيران.
لكن السؤال المنهجي الذي قد يتبادر لذهن بعض المثقفين العرب في هذا الإطار هو: – هل هذا الأنموذج، أو النسخة الجديدة من الإسلام الإيراني إن صح التعبير، يمكن أن تكون كاملة وشاملة، بحيث تستطيع التوفيق بين ما قد يطرحه المشروع من أسس ومبادئ وثوابت انطلاقا من العقيدة الجعفرية الإمامية، مع مراعاة الأبعاد الثقافية والتاريخية والعلمية والجغرافية والطائفية والطاقات الطبيعية والبشرية التي تتوفر عليها إيران كدولة إسلامية.. مقارنة بالخطاب القرآني الجامع الذي حدد مفهوم الأمة بشكل لا لبس فيه، بحيث لا يحتمل الأمر تجزئة الإسلام إلى إسلام شيعي وإسلام سني وإسلام صوفي، أو إسلام إيراني وإسلام باكستاني وإسلام مصري وإسلام سعودي وإسلام مغاربي وإسلام أندونيسي وإسلام غربي وما إلى ذلك من نماذج إسلامية شتى… تختلف باختلاف المواقع الجغرافية وتكوين المجتمعات وطبيعة الأنظمة السياسة القائمة؟..
أصحاب هذه المقولة ينطلقون من رؤية طوباوية تكونت في مخيلة الشعوب عن مفهوم “الأمة الإسلامية”، لاعتقاد العديد من المثاليين الذين، أن الأساس الذي يجب أن ينطلق منه أي مشروع من هذا القبيل هو القرآن الكريم، لأنه كتاب جامع شامل كامل ومكتمل لكل الرسالات السماوية السابقة والشرائع والسنن في الكون والخلق، فيه بيان كل شيئ ولم يفرط في شيئ.. وحيث أن الله تعالى في كتابه المجيد عرّف نفسه بأنه رب العالمين جميعا لا المسلمين فحسب، وحيث أنه بعث برسوله الأمين رحمة للعالمين جميعا وليس للعرب فقط، وحيث أنه أوضح بجلاء أن هناك دينين لا غير، دين المؤمنين ودين الكافرين، وأكّد أن دينه الذي ارتضاه لعباده هو الإسلام من محمد هبوطا إلى نوح صعودا مرورا بكل الرسل والأنبياء عليهم صلاة الله وسلامه.. فإن أي مشروع إسلامي جامع لا يأخذ بالاعتبار هذه الأسس القرآنية الراسخة لا يمكن أن يمثل الإسلام بمفهومه القرآني وفق زعمهم، وسيكون مجرد نسخة مجتزأة عن الإسلام الصحيح الجامع الذي جاء الرسول محمد صلى الله عليه وآله ليكمله للناس، ولم يأتي بدين جديد وما كان بدعة من الرسل كما يقول تعالى.
هذه الأطروحة المثالية كما سميناها، لها وجاهتها من الناحية النظرية، لكن من حيث التطبيق العملي هناك معوقات وصعوبات جمة لا يمكن تجاوزها بالسهولة التي يفترضها أصحاب هذا الطرح – وأنا كنت واحدا منهم قبل أن أدرك الحقيقة وأغير رأيي – لأن ما يغيب عنهم في حقيقة الأمر، هو أن الوحدة التي حث عليها القرآن هي وحدة العقيدة لناحية التوحيد والإيمان بالثوابت والمبادئ والأسس الجامعة المشتركة، لا وحدة الفهم والمعرفة.. لماذا؟..
لأن القرآن بما أنه وحي إلهي فهو نص مفتوح صالح لكل زمان ومكان ويستحيل بالتالي شرحه سواء بالتفسير أو التأويل لتوحيد المعاني، وإلا لتحول إلى نص مُقفل، فيأخذ بذلك الطابع التاريخاني ويفقد جوهره الذي هو الإعجاز الذي يتمثل في النص والمضمون معا، وهو ما يتعارض مع قوله تعالى (لا تحرّك به لسانك لتعجل به إنّ علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إنّ علينا بيانه)، وبالتالي فمن تولّى بيان معانيه الكامنة في كيمياء كلماته هو الله تعالى شخصيا من خلال نور الوحي، لأنه يوحي لمن يشاء من عباده في كل وقت وحين، أو بمعنى آخر، القرآن نص صامت، لكن بمجرد البدء بتلاوته تذب فيه الحياة فيتحول إلى نور ينفذ إلى العقل ويستقر في القلب.
هذا يعني، أن القرآن هو عبارة عن مجموعة لا متناهية من المعاني والدلالات المفتوحة المتجددة لكل البشر حسب الزمان والمكان والظروف، لأنك في الوقت الذي تتلو فيه القرآن ينتابك شعور غامر بالخشوع والقرب من الله ويفتح عليك بابا من أبواب الفهم، وقد تقرأ نفس الآية مرة أخرى في وقت مختلف فيحصل معك معنى آخر أكثر عمقا، وهذا هو معنى أن “القرآن حمّال أوجه” التي قال بها الإمام علي كرم الله وجهه، وبالتالي، فتعدد المعاني واختلاف الدلالات هي التي أنتجت أفهاما واتجاهات عقائدية متنوعة في تاريخ الأمة بقدر تنوع الأوضاع واختلاف الأحوال التاريخية والجغرافية التي حصلت فيها.. لكن هذا لا يمنع من التوافق حول الثوابت الكبرى والمبادئ الأساسية التي تشكل الأرضية المشتركة لوحدة الأمة وتوافقها كما أسلفنا.
ومرد الصعوبة، أو لنقل الاستحالة في القبض على معنى نهائي للنص القرآني تعود لكونه (أي الخطاب القرآني) خطاب متعالي لا تاريخي عابر للأماكن والأزمة، ينتج معاني ودلالات تتنوع بتنوع الأوضاع والأحوال التاريخية في المدى الزمني اللامتناهي والخاضع لسنن الله وقوانينه الحتمية في الكون والخلق، والتي من صفتها الأساس التبدل والتغير والتحول والتطور.
لذلك، فكل ما لدى المسلمين اليوم هو التراث الذي نتاج فكري تاريخي تبلور مع المذاهب والتيارات والمدارس الإسلامية في ظروف مختلفة وشورط أملتها الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عاشتها الأمة والشعوب على امتداد تاريخ تجاربها الأرضية، والقصص القرآني يؤكد لنا أن هذه الحقيقة التي لا تشمل أمة محمد فقط، بل كل الأمم والشعوب منذ بداية الخلق وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
هذا يعني، أن ما لدى المسلمين اليوم في حقيقة الأمر هو الموروث الثقافي المسمى بـ “التراث”، أي مجموعة من الإديولوجيات التي أنتجها العقل الإسلامي وفق فهمه للنص المقدس وسعيه لتطبيق تعاليمه في الواقع المعاش، من هنا ظهور المذاهب كحاجة لضبط المجتمعات بالتشريع كي تلتزم بالخط الإسلامي في مواقفها وسلوكياتها، ومن هنا وجوب التفريق بين القارئ والمقروء وزمن القراءة أيضا، أو إن أردت قلت، التفريق بين الوحي الإلهي الذي يمثل الحقيقة السامية المطلقة والفهم البشري النسبي القابل للنقاش والأخذ والعطاء لأنه عبارة عن معاني ودلالات تحتمل الصواب والخطأ، وهو ما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن النص القرآني عصي على الإخضاع للمنطق الاختزالي البشري، لأنه نص لا تاريخي متعالي، عابر للعصور والدهور والأزمان، ومخترق لكل المجتمعات شرقية كانت أم غربية ويستحيل تنزيل معانيه بصفة قطعية نهائية.
ونقصد بالمنطق الاختزالي كل المحاولات الفاشلة التي سعت لإخضاع الخطاب الإلهي لفهمها الستاتيكي الخاص، وتحويله إلى مجرد إديولوجية بشرية محصورة في قالب زمني معين لتعالج به أوضاع ديناميكية سياسية واجتماعية واقتصادية متحولة ومتغيرة ومتطورة إلى ما لا نهاية.. هذا مستحيل ولا يعدو أن يكون مغامرة غبية لا تنتج علما ولا معرفة، بل تنتج فقط كهنة يدّعون الكلام بلسان الله ومجتمعات مدجّنة، في حين أن الله يخاطب عباده مباشرة دون وسيط ويوحي لمن يشاء منهم ما يريد من معاني ليهديه الصراط المستقيم وينير له طريق الرشاد.
من هنا استحالة بلورة مشروع حضاري إسلامي جامع لكل المسلمين في العالم يشمل كل مناحي الحياة الخاصة والعامة، لأن الشعوب تختلف حسب الجغرافية والظروف، كما أنه من المستحيل تصور نظام سياسي إسلامي يحكم كل شعوب العالم، هذا ليس هو المطلوب، لأن ما يركز عليه القرآن هو التجربة، ولكل أمة تجربتها الخاصة التي قد تكون ناجحة أو فاشلة بقدر فهمها للواقع ولسنن الله في الكون والخلق وانخراط المجتمعات في مسيرة العلم والمعرفة والسعي للمصلحة مع التقيد بالضوابط والأخلاق.
الواقع ودروس التاريخ وسنن الله في الكون والخلق تقول، أن الله جعلنا أمما وشعوبا وقبائل لنتعارف، بكل ما يعني ذلك من تقارب وتفاهم وتعاون وتضامن لا انصهار في قالب واحد، لأن الاختلاف رحمة في ما الخلاف هو المذموم كلما طال الأسس والثوابت والمبادئ القرآنية والإنسانية المشتركة، لقوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) البقرة: ۲۱۳٫
آفـــاق وتحديـــات..
المشروع الحضاري الإسلامي الإيراني في حال كتب له النجاح وتحقق على أرض الواقع وانخرطت فيه الشعوب العربية في ظل الفراغ وغياب مشروع بديل خاص بها، فستنتهي من حياة المسلمين الفرقة بسبب الأطماع والصراعات على السلطة وتعدد الولاءات، وسينهي من واقعنا الظلم والاستبداد والعمالة والفساد ويعيد الاعتبار لمفهوم الجهاد الحقيقي الذي تخلت عنه الأنظمة العربية في مؤتمرها الإسلامي ذات اجتماع خدمة لإسرائيل، وسينهي عصر ثقافة التكفير، وتكتسب المجتمعات حصانة متينة ضد فيروس الإرهاب، وسيوحد رؤيتنا حول العدو الحقيقي للأمة، ليبدأ عصر جديد يعاد فيه صياغة الحاضر على أسس معرفية جديدة لبناء المستقبل المشرق الجميل الذي نحلم به جميعا.. لأن أعظم استثمار في المجال الإسلامي هو الذي يركز على تحرير عقول الناس من الظلام إلى النور، ويفتح أمامهم أبوابا واسعة من العلم والمعرفة، إذ بدونهما لا يمكن الحديث عن نهضة ولا تنمية ولا تحرر وتحرير ولا من يحزنون.
نقول هذا مع بعض التخوف، لأن التحدي الحقيقي الذي يواجهه هذا المشروع الإسلامي الجامع والبديل يكمن أساسا في ما يلي:
* مدى نجاح القائمين على المشروع في ردم الهوة العميقة القائمة بين الإسلام النظري والإسلام التطبيقي، لأن مشكلة الأمة اليوم تكمن في أن مواقفها وأفعالها لا علاقة لها بما جاء به القرآن من أوامر وتعليمات، كما أن سلوكياتها بعيدة كل البعد عن الأخلاق الإسلامية الحميدة التي ربّى الله رسوله عليها وشهد له بأنه على خلق عظيم.
* مدى نجاح القائمين على المشروع في تجاوز العوائق الإديولوجية القديمة، التي وقفت حجر عثرة في طريق وحدة الأمة، بما يعنيه ذلك من تفكيك للخطاب المذهبي بهدف عزل السياسي عن الديني، لأن جوهر الخلاف يكمن في الخلط القائم بين السياسي والديني، بحيث اتخذ الأول قداسته المزعومة من الإديولوجية الدينية فتحول من مجرد فكر دنيوي قابل للأخذ والرد والمناقشة والنقد إلى عقيدة دينية مقدسة يتم الدفاع عنها بسلاح التكفير، الأمر الذي أدى إلى ما تعيشه الأمة اليوم من فتن وصراعات دموية تنتمي إلى التاريخ البعيد، لكن يتم استدعائها من ثلاجة التاريخ كلما دعت مصلحة هذا الطرف أو ذاك إلى ذلك بهدف نزع الشرعية الدينية عن الآخر وإلغائه.
ملحوظة:
في الجزء الثالث من هذا المبحث، سنتطرق إلى أهم وأخطر عائق حال بين وحدة الأمة الإسلامية عبر التاريخ، ونقصد بذلك الصراع “السني – الشيعي” الذي هو موضوع الساعة، لأنه صراع لم يحسم ونقاشه لم يقفل منذ الفتنة الكبرى وإلى يوم الناس هذا، وذلك من خلال تجربة التقريب بين المذاهب وكيفية السبيل للخروج من هذا المأزق.

أحمد الشرقاوي

 

 



دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *